شهدت الأعوام الأخيرة نشاطا مكثفا لعدد من
الحركات السياسية التى تطالب بتعديل الدستور والإصلاح السياسى عموما،
وواكبه أيضا ظاهرة تنظيم العديد من الوقفات الاحتجاجية للعمال والفلاحين
والموظفين التى شكلت علامة مميزة لرصيف مجلس الشعب فى الفترة الأخيرة، ولا
شك أن هذه الاعتصامات والحركات الاحتجاجية ليست وليدة اللحظة بقدر ما هى
نتاج لحركات ربما سياسية أو مطلبية أخرى، بدأت نشاطها خلال الألفية
الجديدة، لتعود السياسة لقيادة المجتمع وتحريك الشارع مرة أخرى، تماما كما
كان يحدث فى عهود سابقة.. هذا ما يرصده كتاب «عودة السياسة.. الحركات
الاحتجاجية الجديدة فى مصر» الصادر حديثاً عن مركز الدراسات السياسية
والاستراتيجية بالأهرام، الذى حررته د. دينا شحاتة، الخبير بالمركز، وشارك
فيه بالأبحاث عدد من الأساتذة والمتخصصين الذين حاولوا وضع تصور شامل لهذه
الظاهرة وكل أبعادها. يرصد الكتاب أهم الحركات الاحتجاجية التى ظهرت فى مصر
بالفترة ما بين عامى ٢٠٠٠ و٢٠٠٨، والعوامل الداخلية والخارجية التى شكلت
طبيعتها الخارجة عن الأطر المؤسسية والحزبية القائمة فى مصر، كما يستعرض
هياكلها التنظيمية من الداخل، وآلياتها الاحتجاجية المتنوعة، وعلاقاتها
ببعضها البعض من ناحية وبجهاز الدولة والأحزاب الرسمية وجماعة الإخوان
المسلمين من ناحية أخرى.فى مقدمة الكتاب تؤرخ د. دينا شحاتة لظهور
تلك الحركات، فى خريف عام ٢٠٠٠ مع تأسيس اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة
الفلسطينية، التى أصبحت نموذجا للحركات اللاحقة لها من حيث هيكلها التنظيمى
المرن وانفتاحها على جميع التيارات السياسية وتركيزها على العمل الاحتجاجى
المباشر خارج الأطر المؤسسية، كحركة ٢٠ مارس، والحملة الشعبية لمناهضة
الصهيونية والإمبريالية، والحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»،
والحملة الشعبية للتغيير «الحرية»، والتجمع الوطنى للإصلاح، والجبهة
الوطنية للتغيير، ويعتبر الكتاب «كفاية» من أهم حركات تلك الفترة، نظراً
لنشأتها بمبادرة وتحالف نشطاء ينتمون لشتى الاتجاهات السياسية، اليسارية
والإسلامية والقومية، ومطالبتها بإصلاح شامل، ونجاحها فى تحريك المياه
الراكدة وتسييس جيل جديد من الشباب، ورغم فشلها فى تحقيق أهدافها العامة
المتعلقة بالإصلاح الدستورى الشامل وتحسين الأوضاع السياسية الداخلية،
فإنها نجحت فى إعادة تعريف السياسة فى مصر من خلال التأسيس لنمط جديد من
العمل السياسى الجماعى تجاوز الحواجز الفكرية والأيدلوجية.فى عام
٢٠٠٦ أفرزت الأوضاع الاقتصادية السيئة عددا من الاحتجاجات والاعتصامات التى
قادها العمال والموظفون، وعلى عكس الحركات السياسية السابقة، نجحت تلك
الاحتجاجات ذات الطابع المهنى والعمالى فى الحصول على بعض التنازلات المهمة
من الدولة، فإضراب عمال المحلة أسس لعودة العمال كقوى فاعلة فى الساحة
السياسية المصرية من جديد بعد عقود من التراجع، كرد بديهى على عمليات
الخصخصة والتحرير الاقتصادى التى تسببت فى تضررهم وشعورهم بتخلى الدولة
عنهم، وعلى الرغم من أن مطالب هؤلاء العمال كانت اقتصادية ومهنية، فإنها
أثمرت نتائج سياسية عميقة، وأعادت هيكلة الاقتصاد وفق رؤية ليبرالية جديدة،
وساهمت فى الدفع نحو تحول ديمقراطى فى مصر، بوضعها إحدى لبنات مجتمع مدنى
أكثر حيوية، يؤمن بجدوى التعبئة الجماهيرية كأداة لتنفيذ المطالب الشعبية
والضغط على الحكومة وأصحاب القرار.أما احتجاجات موظفى الضرائب
العقارية، فيصفها الكتاب بـ«مدرسة النضال الاجتماعى والديمقراطية»، حيث
تجاوز تأثيرها دائرة الموظفين العقاريين، ليمتد إلى موظفى البريد وأساتذة
الجامعات، فبعد أن أثمرت تلك الحركة نقابة عامة مستقلة للعاملين بالضرائب
العقارية، بعد أن أعلنت قياداتها اعتزامهما تحويل اللجنة العليا للإضراب
إلى نقابة مستقلة، وهو حق تكفله القوانين المصرية التى تبيح التعددية فى
العمل النقابى. أعدت بعدها مجموعة من أساتذة الجامعات برئاسة د. مغاورى
دياب، رئيس نادى أعضاء هيئة تدريس جامعة المنوفية مذكرة لإنشاء نقابة
مستقلة لأساتذة الجامعات المصرية، وكذلك فعل موظفو البريد. وفى فصل
بعنوان «الحركات المطلبية والحركات السياسية فى مصر.. قراءة نقدية مقارنة»
يقدم سامح فوزى عرضاً لأهم النظريات الاجتماعية المعنية بالحركات
الاحتجاجية، محاولاً قراءة واقع الحركة الاحتجاجية المصرية من خلالها،
ويرجع نشأتها إلى تراجع دور الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية وانعدام
الثقة فى فعاليتها، مما دفع الجماهير للتعبير عن آرائهم خارجها، وإلى تزاوج
المال بالسلطة ودخول عدد من رجال الأعمال إلى الحقل السياسى العام، مما
أضر كثيرا بالصالح العام ودفع البعض للاحتجاج والرفض ضد ذلك.ويحدد
فوزى عدداً من الاختلافات بين الحركات السياسية والحركات المطلبية، فتلك
الأخيرة، حضور العناصر الحزبية فيها باهت، كما أنها شديدة المقاومة
لمحاولات تسييس قضاياها، ويسهل التفاوض والحوار بينها وبين الحكومة نظراً
لوجود سقف أدنى وأقصى لمطالبها الاحتجاجية، فى المقابل تتسم الحركات
السياسية بارتفاع سقف مطالبها السياسية، فهى إما تريد، مثلا، تغييراً
سياسياً كاملاً، أو تحولاً فى الموقف العربى من الصراع العربى الإسرائيلى،
وهذا يجعل الاستجابة لمطالبها شبه مستحيل، أيضاً يطغى عليها الطابع
النخبوى، وتتسم بنيتها الداخلية بالهرمية أى بتدرج الأدوار والأهمية بين
أعضائها. وفى فصل آخر عنوانه «اليسار والحركات الاحتجاجية فى مصر:
أجيج- اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة- حركة ٢٠ مارس» يتناول الكاتب محمد
العجاتى ثلاث حركات احتجاجية ركزت على القضايا الخارجية، وهى أجيج و٢٠ مارس
والحركة الشعبية لدعم الانتفاضة، وتشترك الحركات الثلاث فى أن مؤسسيها من
اليسار، وتتبنى أسساً تنظيمية مبتكرة قائمة على المرونة واللامركزية
والديمقراطية، كما أنها أعلنت عن تأسيسها كرد فعل على السياسات الخارجية
تجاه المنطقة العربية كالعدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى، أو الحرب
الأمريكية على العراق إلا أنها فى المقابل اتسمت أيضاً بطابع نخبوى
وبانفتاح محدود على التيارات الأخرى.وقد استغلت الحركات الثلاث الأوضاع
الخارجية كمدخل للاحتجاج على أوضاع وسياسات داخلية. مثلا حركة ٢٠
مارس رغم مساندتها الشعبين الفلسطينى والعراقى، تظاهراتها شملت أيضاً
التنديد بالفساد والاستبداد الداخلى فى مصر، علاوة على بياناتها المنتقدة
للنظام المصرى واصفة إياه بالعقبة فى طريق الإصلاح الاقتصادى وتحسين أحوال
البسطاء.غير أن الحركات الثلاث لم تحقق أهدافها بشكل كامل كما يؤكد
الكتاب وربما كان العائق أمامها افتقادها إطار نظرياً واضحاً وآليات
للمتابعة والمحاسبة مما أصابها بحالة من الفوضى والتشتت. ويأتى الفصل
الأخير من هذا الكتاب ليشير إلى عودة الشباب للظهور على الساحة السياسية فى
مصر بعد فترة من الانسحاب، سواء عبر مساهمته فى حركات قائمة بالفعل ، أو
تأسيس حركات احتجاجية خاصة به، مثل «شباب من أجل التغيير»، و«٦ أبريل»
و«تضامن» وميز تلك الحركات عن الحركات الشبابية والطلابية التى شهدتها مصر
فى مراحل سابقة بالستينيات والسبعينيات، اتخاذها من الشارع والإنترنت فضاء
لنشاطها بعكس الماضى الذى مثلت فيه الجامعة ساحة النشاط الأكبر، كما أنها
نجحت فى اجتذاب عدد من الشباب المستقل وغير المنتمى للتيارات السياسية،
أيضاً اتسمت بمعاناتها من الانقسامات والتوترات الداخلية.وتعود
أسباب عودة الشباب المصرى للعمل السياسى من جديد إلى بعض الضغوط الخارجية
على النظام المصرى لتوسيع هامش الحرية والديمقراطية، وإلى تعرض الشباب
للضغوط الاقتصادية والسياسية فى الداخل، وظهور وسائل إعلام واتصال جديدة
وسعت من فرص المعارضة وإبداء وجهات النظر المختلفة وتسليط الضوء على
القضايا الشائكة. ورغم تأكيد الكتاب لاهمية الحركات الاحتجاجية
ودورها فى خلق حراك سياسى بمصر، فإنه لم يعول عليها كثيراً فى إحداث تغيير
بالمنظومة السياسية والاجتماعية القائمة، بسبب غياب التنسيق فيما بينها،
واختلاف أهدافها وأحيانا تعارضها، فالجدوى الحقيقية المنتظرة منها مرهونة
بمد الجسور بين الحركات ذات الطابع الاجتماعى والأخرى ذات الطابع السياسى
وهو أمر غير متواجد حالياً.